الحلقة الخامسة : خطتنا في مواجهة طيران اسرائيل كانت " العزيمة و الجنون " فنحن لا نخاف الموت
صفحة 1 من اصل 1
الحلقة الخامسة : خطتنا في مواجهة طيران اسرائيل كانت " العزيمة و الجنون " فنحن لا نخاف الموت
اضغط هنا للدخول لصفحة احدث ما اضيف للموقع
تدمير دبابة يحتاج 3 هجمات جوية و طائرتنا كانت تدمر اكثر من دبابة في الهجمة الواحدة
و رجالنا تفوقوا على انفسهم في صنع دشم حماية الطائرات ..
و حاربنا الفانتوم المفترس بطائرتنا الميج الضعيفة و انتصرنا بعزيمة و ايمان لا يتبدلان
الحلقة الخامسة : خطتنا في مواجهة طيران اسرائيل كانت " العزيمة و الجنون " فنحن لا نخاف الموت
لماذا تنشر «الوطن» مذكرات محمد حسنى مبارك فى حرب أكتوبر؟!.. سؤال لابد أن يتبادر إلى الذهن فى ظل الأوضاع السياسية المتوترة منذ ثورة 25 يناير حتى اليوم.. قد يبدو الأمر للبعض محاولة لإعادة تجميل الرجل القابع فى إقامته الجبرية بمستشفى «المعادى العسكرى».. غير أن الصحافة تجيب عن هذا السؤال دائماً من مساحة مسئوليتها أمام قرائها: إنها الحقيقة التى ينبغى أن يعرفها الجميع.. الحقيقة من وجهة نظر كاتبها.. ولكل شخص منا الحق فى اتخاذ وجهة النظر التى يؤمن بها..! خاضت «الوطن» منافسة حقيقية وحامية مع صحف عديدة من مصر على هذه «المذكرات».. ولأنها اعتادت الانفراد لقارئها المحترم بالمضمون الحصرى.. فازت بها وبمقدمة مبارك بخط يده.. ونحن إذ ننشرها إنما نقدمها للقارئ بمناسبة مرور 40 عاماً على نصر أكتوبر المجيد، الذى كان مبارك أحد رموزه.. أياً كان خلافنا أو اتفاقنا معه أو عليه.. ليس هذا فقط.. وإنما مع انفرادين آخرين يمثلان إضافة جديدة لذاكرة التوثيق لهذا الحدث العظيم. الأول هو مذكرات أحمد أبوالغيط وزير الخارجية الأسبق بعنوان «شاهد على الحرب والسلام» التى سبق ونشرتها «الوطن».. والثانى المذكرات الشخصية للمشير أحمد إسماعيل وزير الحربية فى حرب أكتوبر التى دوّنها بخط يده، ولم تُنشر من قبل، وتواصل «الوطن» غداً نشر حلقاتها. إنها حرب أكتوبر وقصة البطولات المصرية التى نوثقها للأجيال الحالية والقادمة.. وإذا كان الكثيرون -ونحن منهم- يختلفون مع فترة حكم مبارك، فإن هذا لا يعنى طمس تاريخ هذه الحرب المجيدة التى خاضها الجيش المصرى العظيم، وكان «مبارك» خلالها قائداً للقوات الجوية التى صنعت أعظم بطولات هذه الحرب. و«الوطن» تواصل الانفراد بنشر هذه المذكرات.
«ما أسهل الهدم، وما أصعب البناء، خاصة لو تعلق الأمر بإعادة ترميم النفوس الجريحة»، هكذا يواصل «مبارك» توثيق كيفية إعادة بناء القوات الجوية بقواتنا المسلحة بعد نكسة الخامس من يونيو عام 1967، يؤكد أن السر فى سرعة شفاء النفوس المقاتلة هو صلابة المصريين التى كانت أقوى من مشاعر الهزيمة، والرغبة فى الثأر التى سكنت فى نفوس المقاتلين فكانت أكثر تجبراً من جبروت العدو. يتحدث فى هذا الجزء عن البناء الذى تم فى كل أرجاء القوات المسلحة المصرية على قدم وساق. وكيف تركز العمل فى القوات الجوية على ثلاثة محاور أساسية. يواصل «مبارك» فى كتابه «كلمة السر» الصادر عن «نهضة مصر» توثيقه الدقيق الذى سجله فى نهاية سبعينات القرن الماضى بأمر من الرئيس السادات، لنعرف حقيقة الخطة «صدام» التى وضعت من قِبل المخططين العسكريين فى القوات الجوية لتكون مفتاح النصر فى حرب أكتوبر 73، إلى حد أن قال عنها المشير محمد عبدالغنى الجمسى وقتها: «هى التى بدأت الحرب وهى التى أنهتها». وكيف تعاملت تلك الخطة مع العدو بمهنية منحته قَدْره الطبيعى وإمكانياته التى لا مفر من التعامل معها، فى ذات الوقت الذى حسبت فيه حساب كل ما قد يفاجئنا به العدو فى رد فعله على مبادرتنا الأولى، ولكن كان سلاح مقاتلينا التدريب والتخطيط والإيمان بالنصر أو الشهادة.
الأولة فى البناء.. المطارات
انصب المحور الأول من خطة إعادة البناء على الإسراع بإصلاح وترميم ما أصيب من المطارات ومنشآتها المعاونة، مع العمل السريع على استعادة ما تم تدميره أو إصابته من طائرات السلاح، لتجد القوة البشرية من الطيارين والمهندسين والفنيين، ما يحتاجون له لاستئناف التدريب. وهو ما يقول عنه مبارك: «كانت قيادة السلاح الجوى تدرك أن عدد المطارات الموجودة قليل جداً بالنسبة لاحتياجات رقعة واسعة كمصر، كما كانوا يدركون أن ما لدينا من مطارات بكل تفاصيلها ومنشآتها معروفة لسلاح الجو الملكى البريطانى الذى أنشأ معظمها أيام وجوده فى مصر قبل توقيع اتفاقية الجلاء عام 1954، الأمر الذى يجعل من هذه المطارات سراً غير حصين بالنسبة لسلاح الجو الإسرائيلى، وقد كان من قادته مَن عمل بمطارات القنال قبل رحيل القوات البريطانية عنها، لكن القيادة المصرية الجديدة لم يكن أمامها فرصة للاختيار. كان من الواجب أن تبدأ ولو من نقطة الصفر.. وكانت المطارات القديمة هى نقطة الصفر التى بدأ العمل بإصلاحها لتستقبل الأفواج الجديدة من الطائرات التى بدأ وصولها لتعويض الخسائر الفادحة التى لحقت بطائراتنا».
لم تكن مشكلة المطارات العسكرية المصرية متعلقة فقط بعدم سرية تفاصيلها للعدو، ولكن أيضاً فى تقليدية تخطيطها، وما بها من منشآت معاونة ملحقة بها، فحظائر الطائرات الموجودة بها كانت معدنية وثبت عدم فاعليتها فى حماية الطائرات من القصف الجوى فى نكسة يونيو. لم يكن من الممكن التخلى كلية عن تلك المطارات ولكن كان على القيادة التفكير فى كيفية استغلالها الاستغلال الصحيح. ولذا تم اعتبارها مقرا لتجميع وتركيب الطائرات الجديدة، ومحطات تدريب أولى للأفواج الجديدة من الرجال الذين بدأ تدريبهم بسرعات قياسية على مختلف تخصصات الحرب الجوية من ناحية أخرى. وهو ما يضيف عليه مبارك القول: «للحقيقة والتاريخ فقد أدت هذه المطارات القديمة بعد إصلاحها، جميع المهام التى نيطت بها على أكمل وجه، كما أن وجود هذه المطارات العتيقة فى تصميمها ومنشآتها، قدم لقيادة الجو المصرية الجديدة خدمة رائعة، لأن وجود هذه المطارات بقلة عددها، وانتشار تفاصيلها وذيوع هذه التفاصيل، كان يقدم للقيادة الجديدة باستمرار، الدليل الحى على الأخطاء التى يجب عليها أن تتجنب الوقوع فى حبائلها، وفى سبيل إعادة بناء قواتنا الجوية».
وهكذا كان على القوات الجوية التغلب على قلة عدد المطارات، والقصور فى تجهيزاتها، خاصة فيما يتعلق بأجهزة الإنذار المبكر العاملة بها أو فى الأماكن المحيطة بها. وضعف وسائل الاتصال بين غرف العمليات الفرعية بالمطارات القديمة، وغرفة العمليات المركزية بقيادة السلاح الجوى المصرى.
الممرات الجوية
وهكذا تمثل المحور الثانى فى خطة إعادة البناء للقوات الجوية، فى زيادة عدد المطارات والممرات الجوية بالقدر اللازم، الذى يغطى الاحتياجات الحقيقية لسلاحنا الجوى. وهو ما يقول عنه مبارك: «قد يتصور البعض أن هذه العملية من السهولة بمكان، وأنها لا تخرج عن كونها عملية إمكانيات مادية تيسر القيام ببناء أى عدد من المطارات، ما دامت الرسوم موجودة، وما دامت الأموال والأيدى العاملة موجودة. لكن الأمر فى حقيقته أكثر صعوبة وتعقيداً.. ولا أكون مغالياً إن قلت إن عملية زيادة المطارات المصرية إلى العدد المطلوب بسلاح جوى، له ظروف السلاح المصرى وعليه واجباته، كانت من أروع الملاحم التى كتبها الشعب المصرى فى تاريخه الحديث. وقد بدأت تلك الملحمة عشية النكسة باستطلاع جوى شامل، جمع أراضى جمهورية مصر العربية، وعلى ضوء هذا الاستطلاع الواسع المدى، تم وضع الخرائط المساحية الدقيقة، التى تحدد بدقة بالغة أنسب المواقع لإقامة المطارات والممرات الجديدة، التى رُوعى فى تحديد أماكنها عدد من العوامل المؤثرة، بعضها استراتيجى وبعضها تعبوى، وبعضها تكتيكى، بحيث تؤدى الصورة النهائية لخريطة المطارات الجديدة بعد الإفراغ من إنشائها لإقامة كيان متكامل من القواعد الجوية، القادرة على أداء لحن متناسق عندما يصدر إليها الأمر المرتقب».
وهكذا بدأت الملحمة المصرية فى أعقاب هزيمة قاسية، وفى ظل احتلال العدو لجزء لا يستهان به من الأرض. فبعد وضع الخرائط التفصيلية بدأت عملية استطلاع أرضى على الطبيعية لكل موقع على حدة، لتقرير الصلاحية النهائية. وسرعان ما تصدر إشارة البدء، العمل الذى لم يتوقف لحظة من نهار أو ليل. أقسم الرجال ألا يهنأوا بلحظة راحة إلا ومصر محررة آمنة. كان العمل فى إقامة شبكة المطارات الجديدة يجرى تحت الهجمات المتكررة لطائرات العدو المغيرة على سمائنا، ولكن لم يؤثر ذلك على عزيمة الرجال. وهو ما يتحدث عنه مبارك قائلاً: «كلما ازداد العدو الجوى شراسة فى قصفه لمواقع بناء هذه القواعد كان أبناء مصر الشجعان عسكريين ومدنيين من العاملين فى هذه المواقع يزدادون إصراراً على إنجاز المهمة، ويزدادون شراسة فى أدائها، لأنهم كانوا على يقين، من أنهم فى سباق تاريخى مع الزمن، ومع العدو الذى يريد أن يثبط همتهم، وهو سباق رهيب جائزته الحياة والنجاة وإقامة درع الأمان لمصر كلها، وخسارته رهيبة أيضاً، لا معنى لها سوى تأكيد سيطرة العدو الجوية على سماء المنطقة كلها. ولكننا فزنا من جوف الأرض، وعلى امتداد رقعة الأرض المصرية الغالية لتشييد شبكة هائلة من القواعد والمطارات والممرات الجوية الحديثة فى تصميمها وتنفيذها، وفى المنشآت الحديثة التى زودت بها».
الدشم الخرسانية
يصل مبارك للمحور الثالث فى عملية إعادة بناء السلاح الجوى، والمتعلق بتشييد الدشم الخرسانية المسلحة وملاجئ حماية الطائرات، الذى يصفه بأنه من أروع انتصارات الإنسان المصرى فكراً وعملاً، فى سنوات الإعداد للمعركة، فيرد الفضل فيه للفكر الهندسى المصرى الصميم، وللتنفيذ المصرى الذى يبلغ حد الإعجاز فى دقته. كان لا بد من البحث عن بديل سريع للحظائر المعدنية بشكل يضمن السلامة للطائرات، ويكمل حمايتها فى حالة إفلات العدو الجوى من حائط الدفاع الجوى الثابت، ومظلة الدفاع الجوى المتحركة، ومن هنا، كما تقول المذكرات، جاءت فكرة الدشم الخرسانية التى تولتها مجموعة من العقول المصرية المتخصصة فى هندسة الإنشاءات، والمهندسين العسكريين، وخبراء جهاز إنشاء المطارات، إلى جانب عدد من أساتذة الهندسة بالجامعات المصرية، وهو ما يكمل عليه «مبارك» بالقول: «عندما أعلن مهندسونا وخبراؤنا، أنهم توصلوا إلى تصميم (الدشمة الخرسانية المسلحة) التى تضمن تحقيق الهدف المطلوب، فوجئوا بقيادة الجو المصرية، تطلب منهم أن يتولوا الإجابة الدقيقة عن مجموعة محددة من الأسئلة هى: ما هو على وجه الدقة الموقع الذى يرشحونه لإقامة الدشم بالنسبة لكل ممر من ممرات المطار، وبشكل يضمن سلامة وضع الطائرات موضع الاستعداد فى حالتيه الأولى والثانية؟ وما تصورهم عند تنفيذ التصميم المقترح للأسلوب السليم لخروج ودخول الطائرة من الدشمة وإليها، علاوة على طريقة الجر أو الدفع الذاتى؟ وما الوسائل التى تضمن تأمين وسلامة أطقم الفنيين الأرضيين المسئولين عن تجهيز وإعداد الطائرة داخل الدشمة، خاصة بالنسبة لعادم الطائرة، عند دوران محركها قبل خروجها من الدشمة؟ ما وسائل تأمين الطائرة داخل الدشمة ضد العوامل الجوية والأثرية؟ وما وسائل حماية الطائرة وعدم إصابتها عن طريق المداخل المكشوفة بدون بوابات؟ وتوالت التصميمات والتعديلات، حتى قدر للجميع أن يعلوا فى النهاية كلمة العلم بموضوعية صارمة، ونجح العقل المصرى الخلاق فى تحقيق المعجزة، وظهرت الدشمة المسلحة إلى الوجود، تحدياً عملياً صارخاً، لكل ما أشاعه العدو عن تفوقه فى مجال العالم الحديث والتكنولوجيا، وعجز العقل العربى عن اللحاق به، فضلاً عن منافسته أو التفوق عليه».
يتوقف مبارك عن السرد العلمى لعملية إنشاء الدشم الخرسانية، ليحكى عن واقعة حدثت يوم الأحد، السابع من أكتوبر عام 1973، أى ثانى أيام الحرب، وأظهرت فيها الدشم الخرسانية قوتها وصمودها فى المعركة ودورها الذى بان أثره بقوة، حيث سعى العدو للتقليل من خطورة الهجمات الجوية المصرية، وانتشار المشاة والمدفعية بعد تحقق العبور يوم السادس من أكتوبر، فلجأ لاستخدام الطيران أو ما كان يسميه بذراع إسرائيل الطويلة عبر عملية هجومية مركزة استهدفت ضرب أكبر عدد ممكن من المطارات والقواعد الجوية المصرية، محاولاً تكرار ما قام به فى الخامس من يونيو عام 1967 لإحداث شلل كامل لسلاح الجو المصرى، تمهيداً لإخراجه من المعركة، لولا أن حمت الدشم طائراتنا، وهو ما يقول عنه مبارك -فى عودة لروح تفنيد خطة ورؤى العدو-: «إن العملية الهجومية التى حاول سلاح الجو الإسرائيلى القيام بها صباح الأحد 7 أكتوبر 1973 كانت مجرد «مغامرة مجنونة» ولا يمكن أن ترقى حتى إلى وصفها بأنها مهمة انتحارية وذلك للأسباب الآتية: أولاً إن العملية التى يقوم بها أى سلاح جوى مهاجم ضد خصمه لكى تكتسب احترام الخبراء فى التخطيط للحرب الجوية من جهة، ولكى توصف بأنها عملية سليمة من جهة ثانية، يجب أن يتوفر فيها تحديد الهدف المطلوب تحقيقه من الضربة الجوية تحديداً كاملاً، فلا يترك فرصة أمام الطيارين المقاتلين المكلفين بالمهمة للوقوع فى براثن الارتجال، أو الاجتهاد السريع، وأن تكون لدى واضع الخطة المعلومات الدقيقة عن دفاعات العدو الثابتة والمتحركة المتوقعة للتصدى للعملية واعتراضها ومحاولة إجهاضها. ولذا، فإن التطبيق الموضوعى المحايد، لهذه القواعد النظرية على العملية الهجومية التى قام بها سلاح الطيران الإسرائىلى.. ضد مجموعة من المطارات المصرية، يوم الأحد 7 أكتوبر 1973 يؤكد أن هذه العملية، لم تكن بأى حال من الأحوال عملية هجومية سليمة من وجهة النظر العلمية لقواعد التخطيط للحرب الجوية، كما لا يُمكن وصفها ولو من باب التجاوز، بأنها عملية انتحارية، قامت بها جماعة من الفدائيين، فإذا لم تكن هذه العملية، هجوماً جوياً جرى تخطيطه وتنفيذه، على أسس سليمة، وإذا لم تكن أيضاً عملية انتحارية، فلم يبق أمامنا ودون أدنى استسلام لدواعى التعصب القومى، أو تجاهل النظرة العلمية المحايدة إلا أن نصف هذه العملية بوصفها الصحيح، وهى أنها مجرد مغامرة مجنونة، اندفع إليها قادة سلاح الجو الإسرائيلى، بالطيش، والاستهتار حتى بأرواح طياريهم المقاتلين واندفعوا إليها بأخطر ما يقع فيه المقاتل الحديث، وهو الغرور بالنفس والاستهانة بالخصم».
لا يكتفى مبارك بتوصيف تلك الخطوة بالجنون من قبل عدو أعماه الغرور، لكنه يذكره بما قامت به قواتنا المسلحة يوم السادس من أكتوبر ليدرك حمق خطوته، وندرك نحن حجم إنجازنا، فيقول: «كان على القائد الإسرائىلى الذى أصدر أمره بالهجوم على المطارات المصرية صباح الأحد 7 أكتوبر أن يتوقف أمام حقيقتين هما: فى الساعة «205» الثانية وخمس دقائق من بعد ظهر السبت 6 أكتوبر، عبرت مائتان واثنتان وعشرون طائرة مصرية قناة السويس، لتقوم بضربة جوية مركزة على مختلف القواعد والمواقع الإسرائيلية فى سيناء، وتنجح فى أداء مهمتها نجاحاً ساحقاً، أكده انخفاض نسبة الخسائر بين الطائرات المصرية المهاجمة إلى واحد فى المائة، تمثل رقماً قياسياً عالمياً، لم يحدث من قبل فى تاريخ الحروب الجوية، كما أكد هذا النجاح الساحق، ارتفاع نسبة إصابة الأهداف إلى رقم يجاوز الخمسة والتسعين فى المائة، بالإضافة إلى نجاح هذا العدد الضخم من الطائرات المهاجمة فى العودة بسلام بعد تنفيذ المهمة، واختراق حائط الجحيم الذى أشعلته المدفعية المصرية المرابطة -وقتها- على الضفة الغربية للقناة، دون أن تسقط طائرة مصرية واحدة -ولو من باب الإصابة الخطأ- وهى تحلق على ارتفاع منخفض، لا يجاوز ارتفاع السد الترابى الذى أقامته إسرائىل على الضفة الشرقية للقناة إلا ببضعة أمتار قليلة».
يا الله أنت وحدك من يعلم ما فى النفوس، وتعلم أن هؤلاء الجند وقد قال عنهم نبيك وآخر مرسليك إنهم خير أجناد الأرض-ولو كره الكارهون وكذب المدعون- أنت من تعلم كيف عادت هذه الطائرات المصرية بعد نجاح ضربتها على خطوط العدو، سليمة لتخترق جحيم المدفعية المصرية التى كانت تصب غضبها قبل نارها على جبهة العدو، دون أن تسقط منها طائرة واحدة، وهو ما يضفى ملامح الإعجاز على رجال المدفعية الذين لم يخطئوا أهدافهم ولو قيد أنملة، وكذلك مهارة الطيار المصرى المقاتل، فى إصابة أهدافه والتصويب عليها بدقة بالغة، ثم قدرته العالية الكفاءة، على التحكم فى طائرته، والمناورة بها، وتحديد مسارها يميناً ويساراً، وارتفاعاً وانخفاضاً بصورة مشرفة وضحت آثارها فى عودته سالماً، بالإضافة إلى ما كانت تتمتع به الجبهة المصرية من نظام إنذار مبكر ودفاع جوى بكفاءة عالية الارتفاع يسرت للقوات المسلحة المصرية بجميع أفرعها البرية والبحرية والجوية والدفاع الجوى أن تأخذ حذرها فى وقت مبكر جداً ضد أى هجوم متوقع. يستشهد مبارك هنا باعترافات عدوه، فيذكر تصريحات موشى ديان نفسه، وزير الدفاع الإسرائيلى، الذى قال: «هذه حرب صعبة.. معارك المدرعات قاسية.. ومعارك الجو فيها مريرة.. إنها حرب مريرة بأيامها، وثقيلة بدمائها»، كما يستعين بمانشيتات صحيفة نيويورك تايمز المعنونة بالهزيمة: «إسرائيل فقدت لحظة اندلاع الحرب نحو خمس ما كانت تملكه من طائرات.. وتتمثل هذه الخسائر فى المقاتلات الفانتوم، وقاذفات القنابل الهجومية من طراز سكاى هوك».
يتوقف مبارك مرة أخرى ليطرح تساؤله حول كيفية إعادة بناء قوات جوية فى ست سنوات وبتلك الكفاءة؟ فيجيب ذاته بالقول إن السبب يكمن فى درس النكسة فى يونيو 1967 والذى حول عمل القوات المسلحة كلها من حرب شعارات لحرب إرادة، تم بناؤها على أسس العلم والتسليح، أما السبب الثانى فيكمن كما يقول فى حرب الاستنزاف التى كانت محطة تدريب لا يستهان بها للمقاتل المصرى فى كل أفرع القوات المسلحة، مشيراً إلى أن حرب الاستنزاف مرت بثلاث مراحل هى: الصمود، والدفاع النشط، ثم الاستنزاف.
«الميج» فى مواجهة «الفانتوم»
مرة أخرى يسلط مبارك القائد العسكرى الضوء على بطولة لأحد نسور الجو المصرى فى حرب الاستنزاف، التى تمكن فيها طيار مقاتل مصرى يقود طائرة من طراز «ميج» من تحقيق المعجزة حين حطم دعايات العدو وأسقط طائرة «فانتوم» أمريكية كانوا يطلقون عليها «الشبح». يذكر مبارك القصة بقوله: «كانت المنطقة الساحلية الواقعة غرب «بورسعيد» و«شرق رأس البر»، نقطة التسلل للطائرات المعادية التى تستهدف ضرب المطارات المصرية.. وفى يوم 9 ديسمبر 1969 التقطت شاشات الرادار المصرية، أهدافاً غريبة تتحرك فوق مياه البحر الأبيض على ارتفاعات منخفضة فى اتجاه المنطقة الخطرة من سواحلنا الشمالية، وعلى الفور صدرت الأوامر لمقاتلاتنا المصرية من طراز «ميج 21» بالتصدى للطائرات الإسرائيلية المغيرة، وكانت من طراز «فانتوم». كانت المواجهة الفريدة يقودها من الجانب المصرى بطل من أبطال السلاح الجوى المصرى هو الرائد طيار سامح، الذى دخل هذه المعركة مشبّعاً بروح الانتقام والثأر لزميله فى السلاح وصديق عمره النقيب طيار «نورالدين» الذى كُتبت له سعادة الاستشهاد، بفعل كمين جوى نصبته له المقاتلات الإسرائيلية فى يوليو 1969. كانت طريقة الانتقام فى غاية البساطة والجرأة فى وقت واحد. كان بين طيارى التشكيل المصرى الملازم طيار عاطف، فأصدر الرائد سامح أمره لتلميذه عاطف لكى يأخذ وضع الاستعداد اللازم، ثم قام سامح بنفسه وبمعاونة باقى طائرات التشكيل المصرى بالمناورات السريعة المُحكَمة التى جعلت إحدى طائرات «الفانتوم» فى مرمى نيران الطيار عاطف الذى كان يتلقى توجيهات قائده، وينفذها بدقة، يسّرت له أن يصيب صيده الثمين. فسقطت «الفانتوم» وكان هذا اليوم بمثابة ناقوس الإنذار المدوى وانتبه سلاحها الجوى إلى حقيقة الخطر الداهم، الذى يعنيه نجاح الطيار المصرى المقاتل فى إسقاط أحدث أنواع الطائرات».
يعرج مبارك من حديثه عن البناء المادى للقوات الجوية، إلى البناء المعنوى لرجالها ليؤكد أن الروح المعنوية القوية المؤمنة برسالتها هى أساس سلامة العقيدة القتالية التى تقود إلى ارتفاع الكفاءة النفسية للمقاتل. فيؤكد أن المقاتل المصرى الذى تعرض للهزيمة فى يوم ٥ يونيو هو نفسه المقاتل الذى حقّق النصر الساحق فى يوم ٦ أكتوبر بعد ست سنوات ليصعد من قاع الهزيمة ليرتقى قمة النصر، وهو يحمل نفس السلاح الروسى. وهو ما دفع بإسرائيل إلى القول إن المصريين تعاطوا دواءً كيميائياً للشجاعة! وهو قول هراء بالطبع يعبر عنه مبارك بالقول: «إذا كان هناك من سر غير كيميائى بالتأكيد فإن مكمنه هو إيمان المقاتل المصرى مع قيادته الجديدة بأن السلاح بالرجل وليس الرجل بالسلاح. من هذا الإيمان الأساسى، استمد المقاتل المصرى المكوّنات السليمة لعقيدته القتالية الجديدة، التى وصلت به إلى مستوى من ارتفاع الكفاءة النفسية والقتالية، أذهل الخصم، وجعله يبحث عن سر «حبوب الشجاعة» التى يتعاطها هذا المقاتل المصرى الجديد».
ثم يبدأ مبارك فى شرح الكيفية التى تم بها دعم الروح المعنوية للمقاتل المصرى بعد نكسة الخامس من يونيو عبر منهج علمى ونفسى مع الاعتماد على طبيعة المقاتل المصرى الصلبة المستندة إلى جذور ممتدة ضاربة فى التاريخ ومؤمنة بالأرض. لتستبدل القيادة بالقوات المسلحة بنظريات إدخال السرور عن طريق حفلات الترفيه وتوزيع الحلوى والسجائر الإضافية على الضباط والجنود، والتى كانت سائدة حتى يونيو 1967، نظريات العلم الحديث فى التدريب وهدم دعاية العدو لنفسه من أنه يمتلك اليد الطولى والأقوى وأنه الجيش إلى لا يُهزم، من داخل نفوس مقاتلينا. لا من خلال الشعارات والعبارات الرنانة ولكن من خلال تفنيد أساليب العدو وإبراز ما بها من ضعف وقوة وسبل مواجهتها. وهو ما يقول عنه مبارك: «لم تكن المهمة الجديدة سهلة بأى حال من الأحوال، فقد كان على الجهاز الجديد الذى كانت مسئوليته الإعداد المعنوى للمقاتل الجوى، أن يضع خطته على أسس مدروسة، وأن ينفذها بأسلوب عملى، لا يقتصر على التوجيهات المكتوبة فى نشرات التوجيه المعنوى التقليدية.. بل تنوع أسلوب «الجهاز الجديد»، فشمل كل وسائل الاتصال الجماهيرى -المعترف بها فى فلسفة الإعلام الحديث- كالهوايات، والتدريب، والترفيه، ونشر المعلومات. كانت هذه الوسائل جميعها، تتحرك فى تعاملها مع المقاتل، مستهدفة تزويده بألوان من المعرفة، التى يمثل كل منها، عنصراً أساسياً، من مكونات «العقيدة القتالية السليمة»، بحيث تعيد بناء هذا المقاتل نفسياً على أساس صلب، فيكتسب الثقة بالنفس وفنون القتال».
** قل «جيش مصر» ولا تقل «عسكر»
من يقرأ تلك الجزئية فى مذكرات مبارك يدرك حقيقة ومفهوم العقيدة لدى جيشنا الذى يسميه البعض جهلاً أو حقداً بكلمة «عسكر»، حيث يشرح مبارك كيف أن جيشنا فى إعادة إصلاح ما خسره فى عام 1967 اعتمد على أكثر من مسار. فيتحدث عن القوات الجوية كمثال، قائلاً: «كان علينا دعم عقيدة القتال لإعداد المقاتل الجوى المصرى من الوجهة النفسية إعداداً سليماً، لنمزج داخل نفسية هذا المقاتل بين أمرين، أنه لا يقاتل حين يقاتل، رغبة فى العدوان، بل يخوض أهوال الحرب، لصد العدوان عن أرضه وعرضه، فهو مقاتل، وليس قاتلاً مأجوراً. والثانى: أن الجزاء الحقيقى الذى ينتظر المقاتل المؤمن هو النصر على عدوه، وردعه عن العدوان.. أو.. الاستشهاد فى سبيل الوطن. كانت النتيجة الرائعة هى نقطة الوصول على المحور الأول.. فى عملية البناء الكبير لقواتنا الجوية. وصدق العالم أجمع، ما أراد المقاتل المصرى أن يقوله ببساطة، من أن «السلاح بالرجل».. وليس الرجل بالسلاح، فى ذات الوقت كان العمل لرفع الكفاءة القتالية للمقاتل المصرى. وتم تعيين الرؤساء المناسبين، والمسلحين بالتخصصات المتقدمة، فى أفرع التدريب المختلفة، لإعداد الخطط الجيدة للتدريب القتالى، على أسس واقعية».
وهكذا شملت عمليات التدريب دراسة ما حدث من أخطاء فى يونيو 67 لمنع تكرارها، والتدريب على عمليات القتال الجوى بجميع أنواعه فى مختلف الارتفاعات، والظروف الجوية المتباينة، وإجراء الرماية فى ميادين تكتيكية، والتصويب على أهداف هيكلية، تشبه الأهداف الحقيقية لدى العدو. وإعداد الطيارين والملاحين والموجهين، والفنيين والأطقم الأرضية بأساليب متكاملة.. تمكنهم من استخدام الأساليب الفنية الحديثة، والوصول بهم إلى المستوى العلمى، الذى يسمح لهم بالتعامل مع أحدث الآلات، وأكثر أنواع الطائرات تعقيداً. وإعداد المتخصصين فى مجال الاتصالات والإصلاح الهندسى للطائرات والملاحة الجوية، والاستطلاع والتصوير الجوى وتفسير وقراءة الصور الجوية، وتشغيل المعدات الفنية الخاصة التى تكمل عمل الطائرة.
أتى هذا بثماره -كما يقول مبارك- عن تحقيق أرقام قياسية لدى المقاتل المصرى فى حرب أكتوبر، فيضيف: «بعد ست سنوات من هذه التدريبات المكثفة، فى مختلف المستويات والمجالات، كان أن حققنا كثيراً من الأرقام القياسية. فقد حقق كثير من الطيارين بين «6» و«7» طلعات طائرة فى اليوم، محطمين بذلك الرقم القياسى العالمى وهو «4» طلعات يومية. ودامت بعض الاشتباكات الجوية، خلال حرب أكتوبر، ما يقرب من «50» دقيقة، رغم أن الزمن التقليدى لأى اشتباك جوى لا يتعدى من «7» إلى «10» دقائق. وكان تدمير الدبابة الواحدة فى جداول التدمير النظرية، يستلزم من «2» إلى «3» هجمات طائرة.. غير أن طيارى المقاتلات القاذفة المصريين حققوا إمكان تدمير أكثر من دبابة بهجمة طائرة واحدة».
كلمة السر.. «صِدام»
حملت خطة القوات الجوية فى حرب السادس من أكتوبر اسم «صدام» لتعبر عن مضمونها الذى يتحتم فيه الاصطدام بالعدو وإلحاق أكبر قدر من الخسائر فى قواته البشرية والآلية. ويبقى السؤال الذى يطرحه مبارك فى مذكراته شارحاً تلك الخطة وما حدث فيها هو: ما حقيقة ما حدث فى الثانية وخمس دقائق من بعد ظهر السادس من أكتوبر عام 1973؟ وكيف نفذ طيارونا المقاتلون الضربة الجوية المصرية المركزة «صِدام» ضد أهداف العدو؟ كيف حققوا بدقتهم فى تنفيذها، وبانخفاض نسبة الخسائر بين طائراتهم، وارتفاع نسبة إصاباتهم للأهداف المعادية، مستويات قياسية جديدة لم يسبقهم إليها أحد فى تاريخ الحروب الجوية؟ يقول مبارك: «فى هذه الحرب أثبت مقاتلونا بنجاحهم الساحق أن الطيار المصرى المقاتل ليس قادراً على الانتقام من عدوه الطيار الإسرائيلى فحسب، ولكنه قادر على تحقيق انتقامه الجوى، بأعلى قدر من الكفاءة فى التخطيط، والإحكام فى التنفيذ، بمستوى يجعل من ضرباته الانتقامية مثالاً يُحتذى به».
يسترجع مبارك قبل استدراكه فى شرح الخطة الهجومية للقوات الجوية فى أكتوبر 73، ذلك الاجتماع الذى دعا له الرئيس السادات فى 24 أكتوبر عام 1972 فى القيادة العامة للقوات المسلحة، عارضا بعضا من فقراته نتوقف نحن أمام تلك الفقرة التى قال فيها السادات لرجاله من قادة القوات المسلحة: «إحنا أمام امتحان قدام شعبنا فى المقام الأول.. قدام رجولتنا.. تاريخنا كله.. قدام أجيالنا اللى جاية.. هل إحنا موجودين، ولّا مش موجودين.. ربنا يوفقكم». وهكذا تدرك حجم التحديات التى كان يواجهها هذا الجيش العريق. يعرف حجم المعوقات ويعرف دوره ويصر على تحمل مسئوليته. يشرح مبارك مشاعره أمام كلمات السادات بالقول: «أرجو ألا أكون مبالغا فى إحساسى إذا قلت إننى شعرت ليلتها بأن حديث القائد الأعلى عن اختبار القدر الذى نواجهه، وتساؤله حول إحنا موجودين ولا مش موجودين، ثم إحساسه بالألم وهو يقول: كفاية سمعنا كلام كتير.. وتجريح كتير.. ولحظة لازم نواجهها.. محكوم علينا من الكل إن إحنا ناس لا قدرة لنا.. خلاص.. مشلولين». أحسست بأنه تعبير عن مشاعر الرجال فى القوات الجوية، التى تحملت ما لم يتحمله سلاح جوى فى العالم من اتهامات ظالمة، أراد العدو بها أن يهز ثقة مصر فى سلاحها الجوى، وفى طيارها المقاتل. أوجز السادات المعنى: «إحنا أمام امتحان قدام شعبنا فى المقام الأول.. قدام رجولتنا.. تاريخنا كله.. قدام أجيالنا اللى جاية.. هل إحنا موجودين ولا مش موجودين». وإذا كان المنطق الجدلى يسمح بوجود أكثر من إجابة للسؤال الواحد، فإن هذا السؤال بالذات لم تكن له إلا إجابة واحدة.. أن نثبت للعالم ولشعبنا المصري -ولأمتنا العربية- أننا موجودون».
ويحكى مبارك كيف دخل سلاحنا الجوى المعركة وهو محمل بأوزار ضربتين جويتين فى عامى 1956 و1967، وكيف رأى أن يكون الثأر لهذا السلاح بالرد على العدو بنفس اللغة التى يفهمها، عبر قيام رجال السلاح الجوى بضربة جوية مركزة ضد مطارات العدو ومواقعه العسكرية المؤثرة، ضربة ذات حجم هائل، وغير متوقعة سواء على مستوى التخطيط المحكم، أو التنفيذ الدقيق. سعى مبارك للثأر والانتقام من عدوه وتلقينه درساً فى كيفية احترام قدرات الطيار المصرى. وهكذا ولدت الفكرة الأولى للضربة «صدام».. بمعناها وأبعادها وفلسفتها وأهدافها.
هنا لا بد أن تستمع لمبارك وهو يشرح خطته «صدام» التى استعاد بها الطيار المصرى سمعته بين جيوش العالم، حين يقول: فى بداية تحليلنا للعملية «صدام» لا بد من الإشارة إلى بعض الحقائق المهمة، أولها تحديد موقفها من العدو الجوى موضوعيا، يصل إلى حد الصرامة فى واقعيته، دون تهوين أمر هذا العدو أو انتقاص من قدراته الحقيقية، ودون تهويل أو مبالغة فى تقدير ما يملكه العدو من عتاد وخبرة قتالية. لقد تحركت قيادة الجو المصرية وهى تخطط للعملية «صدام» على أساس أن الطيار المصرى المقاتل سيواجه عدوا مدربا تدريبا جيدا، ووراءه رصيد من الخبرة والممارسة القتالية، بالإضافة إلى ذلك هناك حقيقة ما يملكه العدو من إمكانيات عالية المستوى فى العتاد والسلاح الجوى، تجعل الطيار الإسرائيلى مزوداً -من الناحية النفسية على الأقل- بكفاءة معنوية عالية، يمده بها إحساسه بالاطمئنان الكامل إلى طائرته وإمكانياتها العالية. هذه الواقعية فى النظرة إلى العدو التى تمثل أعلى مستويات الصدق مع النفس هى التى حمت الطيار المصرى المقاتل، ظهر السادس من أكتوبر، من التعرض لمفاجآت غير محسوبة، وهى التى ضمنت لسلاحنا الجوى الاستمرار فى القيام بواجباته القتالية والهجومية طوال أيام المعارك، بحيث كانت قواتنا الجوية، كما قال الفريق أول محمد عبدالغنى الجمسى القائد العام للقوات المسلحة ونائب رئيس الوزراء ووزير الحربية، «هى التى بدأت الحرب وهى التى أنهتها». نعم لقد كان لهذا الحساب الدقيق للمخاطر والمفاجآت المحتملة من جانب العدو الفضل فى نجاح الطائرات المصرية فى تنفيذ ضربتها المركزة «صدام»، وعجز العدو عن التصدى لهذا العدد المخيف من الطائرات -الذى لم يسبق أن اشترك مثله فى عملية هجومية واحدة- بل إن كثافة عدد الطائرات المصرية المغيرة، فضلا عن قدرتها على إحداث أكبر قدر من التدمير للعدو بسرعة وفى وقت واحد، أدت أيضاً إلى نتيجة رائعة كانت محسوبة تماما، وهى إصابة طيارى العدو بالفزع والرعب، وهم يشاهدون سلاحنا الجوى يهاجمهم بهذه الكثافة والإصرار، الأمر الذى أدى إلى اهتزاز ثقتهم بقيادتهم التى خدعتهم طويلا، وهونت لهم كثيرا من أمر سلاح الجو المصرى وأمر طياريه.
ويواصل مبارك حديثه عن الخطة «صدام» قائلاً: «الحقيقة الثانية هى توقع المفاجآت من العدو، احتراما لمبدأ أن العدو عنده دائما ما يخفيه، وضمانا للوصول بالخطة المصرية إلى تحقيق الهدف المحدد لها، حتى لو تعرض التنفيذ لأى مفاجآت يكون العدو قد أحكم إخفاءها فى الفترة السابقة للعمليات، وما يمكن أن ينتج عن هذه المفاجآت من تعويق ولو جزئى لأهداف الضربة الجوية. وحددنا خطوات خطتنا فى الآتى:
1- فى الموعد المحدد لبدء العملية «صدام» أى الساعة 2.05، تندفع الطائرات المصرية، المكلفة بالمهمة، شرقا، وتخترق خط الجبهة، حيث تقوم وفى وقت واحد، تم حسابه بالثانية، بقصف مركز للأهداف والمواقع المعادية، التى رؤى على مستوى التخطيط المتخصص للقوات الجوية، والتخطيط الشامل لقواتنا المسلحة كلها، ضرورة تدميرها وإسكاتها تماما قبل اندلاع الحرب، حتى نوفر لقواتنا التى ستعبر القناة بعد نجاح الضربة الجوية، أقصى ما يمكن توفيره من ضمانات الأمن، وعدم التعويق المؤثر لمجهودها الرئيسى فى العمليات. ووضعنا فى حسابات خطتنا احتمال نجاح العدو فى استخدام ما قد يكون عنده من إمكانيات غير معروفة لنا، بحيث يتمكن من امتصاص جزء كبير من تأثير الضربة الجوية التى سنوجهها لمواقعه وأهدافه المؤثرة، ففكرنا فى الحل السريع الذى يضمن تحقيق أهداف الضربة الجوية بأعلى نسبة من إصابة الأهداف، وبأقل قدر من الخسائر بين طائراتنا، وهذا الحل الذى نزيح الستار عنه الآن يتمثل فى الملمح الثانى من الخطة.
2- أن تقوم قواتنا الجوية، فى تمام الساعة الرابعة والنصف بعد ظهر 6 أكتوبر، أى بعد مرور نحو الساعتين والنصف، بتوجيه ضربة جوية ثانية، بنفس المستوى العالى من التركيز، وعلى الأهداف نفسها التى تم قصفها فى الضربة الأولى.لمواجهة أى تعويق من العدو لأهداف الضربة الأولى. إن قصر المساحة الزمنية التى تفصل بين الوقت المحدد للضربة الأولى، ووقت توجيه الضربة الثانية، لا يسمح للعدو بالتقاط أنفاسه، وإعادة أهدافه التى أصيبت فى الضربة الأولى -أو دُمرت- إلى مستوى الصلاحية المؤثر فى مقاومة الضربة الثانية، فضلا عن أن القوات الميدانية العاملة فى المواقع التى دمرت -أو أصيبت- فى الضربة الأولى، تكون كفاءتهم النفسية، قد هبطت بشكل فعال، يؤثر على كفاءتهم القتالية، التى لن تسعفهم فى مقاومة الضربة الثانية. كما أنه فى حالة نجاح العدو فى امتصاص الجزء الأكبر من الآثار التدميرية التى أحدثتها الضربة المركزة الأولى، فالأمر المؤكد أن الجانب الأكبر من اهتمامات العدو، عقب تلقيه لهذه الضربة المفاجئة، وبالكثافة التى تمت بها، سيتجه إلى محاولة إصلاح ما أعطب أو أصيب من أجهزته وعتاده -إن كانت هناك إمكانية لإصلاحه- ومعنى هذا أن العدو سيكون مشغولا طوال هذه الفترة فى محاولة حصر الخسائر، وإصلاح ما يمكن إصلاحه من أعطاب، ولن يتجه بمجهوده الرئيسى إلى محاولة الرد بضربة جوية انتقامية، قبل الاطمئنان إلى سلامة موقفه، والعودة بهذا الموقف إلى ما هو قريب من المستوى السابق للضربة التى تلقاها».
كان التخطيط يسير وفقا لرؤية علمية محددة، كان كل شىء قد تم حسابه حتى نتائج العمليات الجوية والهدف منها. وهو ما يقول عنه مبارك: كانت الخطة «صدام» تضمن تحقيق عدد من النتائج هى:
1- استمر التصاعد فى الخط البيانى الذى يمثل تدمير أهداف العدو، بحيث نصل بهذا الخط إلى أقصى نقطة ممكنة تمثل الهدف النهائى لخطة العملية «صِدام».
2- حرمان العدو من الهدوء الذى قد يساعده على تعويض ما خسره من عتاد ومقاتلين، أو إصلاح ما أُعطب من أجهزته ومنشآته نتيجة للضربة الأولى.
3- منع طيران العدو من استخدام المطارات القريبة فى توجيه ضربة انتقامية، سواء ضد قواتنا الزاحفة أو ضد أهدافنا العسكرية أو المدنية.
4- توفير الحماية اللازمة لقواتنا البرية فى ساعات العبور الأولى، وذلك بمنع طيران العدو الذى دمرت أو أعطبت مطاراته القريبة ومواقعه المؤثرة من القيام بأى عمليات هجومية تعوق المجهود الرئيسى لهذه القوات، خصوصاً فى لحظات إنشاء رؤوس الكبارى وتأمينها، والتى تُعتبر أخطر مراحل العبور».
وتظهر بشائر النصر بعد الضربة الجوية الأولى فى حرب السادس من أكتوبر حينما ثبت تحقيق الأهداف المطلوبة فيها بشكل يؤدى للاستغناء عن توجيه الضربة المركزة الثانية التى كانت موضوعة فى الخطة. وهو ما يدفع مبارك للعودة إلى عدوه الذى حطم طائرته فى يونيو 1967 «موردخاى هود» قائد القوات الجوية الإسرائيلية وصاحب عملية طوق اليمامة التى حطمت قواتنا على الأرض فى 1967. فيوجه له الحديث قائلاً: «تُرى ما رأى جنرال الجو الإسرائيلى «موردخاى هود» صاحب عملية «طوق الحمامة» - التى كادت العسكرية الإسرائيلية أن تفرضها على التاريخ العسكرى، باعتبارها خطة إسرائيلية، وهى لا تعدو فى حقيقتها، أن تكون نسخة مقلدة من الأصل الأنجلوفرنسى، الذى نُفذ ضدنا عام 1956؟ ترى ما رأى الجنرال «هود» فى هذا التمهيد العلمى الدقيق الذى اعتبره المخطط الجوى المصرى نقطة البداية الأولى فى إعداده لخطة الضربة الجوية المصرية «صِدام»؟ وما رأى «موردخاى هود» -ومن ورائه كل جنرالات الجو الإسرائيليين وكل صقور المؤسسة العسكرية الإسرائيلية- فى ذكاء المخطط الجوى المصرى وفى قدرته الواضحة على الاستفادة إلى أقصى حد من نظريات وقواعد القتال الجوى الحديث لكى يضمن لخطته الهجومية أكبر قدر من النجاح، ويوفر لطياريه -عن طريق الدراسة الجادة- كل ما يستطيع توفيره من ضمانات ضد المفاجآت غير المحسوبة وعمليات الإجهاض المضاد التى تعوق الضربة المصرية وتنحرف بمجهودها الرئيسى عن أهدافه الأساسية. ألا يعتبر «الجنرال هود» كل هذا دعوة غير مباشرة للفكر، يوجهها الطيار المصرى المقاتل -الذى أُعيدت صياغته على أحدث ما تكون صياغة وإعداد الطيار المقاتل- لكى يفيق خصومه من أحلام اليقظة الكاذبة التى نعترف بأنها أفادتنا كثيراً، لأنها ساعدتنا على العمل فى صمت، ولسنوات طوال، كان العدو فيها مشغولاً باجترار إحساسه البالغ بالنصر، وكنا منصرفين خلالها إلى العمل والتدريب والإعداد، حتى وصلنا إلى اللحظة التى أقسمنا -عام 1967- على الوصول إليها مهما كان الثمن ومهما كانت التضحية».
ثم يواصل مبارك تحذيره الذى يصل لمرحلة التهديد لهذا العدو بقوله: «إن مصير أى مغامرة جنونية قد يفكر العدو فى الإقدام عليها تقليداً لما حدث فى 5 يونيو 1967 ليس مصيراً افتراضياً مبعثه الوهم، لكن المصير المحتوم سيكون نتيجة حتمية لما يستطيع سلاحنا الجوى أن يصنعه بعدوه -جواً وبراً وبحراً- بعد أن وصل إلى ما وصل إليه من مستوى بالغ الارتفاع، كسلاح جوى بالغ العصرية على جميع مستويات التخطيط، والتنظيم، والإعداد، والتدريب، ذلك المستوى الذى تفصح عنه تفاصيل العملية «صِدام».
تدمير دبابة يحتاج 3 هجمات جوية و طائرتنا كانت تدمر اكثر من دبابة في الهجمة الواحدة
و رجالنا تفوقوا على انفسهم في صنع دشم حماية الطائرات ..
و حاربنا الفانتوم المفترس بطائرتنا الميج الضعيفة و انتصرنا بعزيمة و ايمان لا يتبدلان
الحلقة الخامسة : خطتنا في مواجهة طيران اسرائيل كانت " العزيمة و الجنون " فنحن لا نخاف الموت
لماذا تنشر «الوطن» مذكرات محمد حسنى مبارك فى حرب أكتوبر؟!.. سؤال لابد أن يتبادر إلى الذهن فى ظل الأوضاع السياسية المتوترة منذ ثورة 25 يناير حتى اليوم.. قد يبدو الأمر للبعض محاولة لإعادة تجميل الرجل القابع فى إقامته الجبرية بمستشفى «المعادى العسكرى».. غير أن الصحافة تجيب عن هذا السؤال دائماً من مساحة مسئوليتها أمام قرائها: إنها الحقيقة التى ينبغى أن يعرفها الجميع.. الحقيقة من وجهة نظر كاتبها.. ولكل شخص منا الحق فى اتخاذ وجهة النظر التى يؤمن بها..! خاضت «الوطن» منافسة حقيقية وحامية مع صحف عديدة من مصر على هذه «المذكرات».. ولأنها اعتادت الانفراد لقارئها المحترم بالمضمون الحصرى.. فازت بها وبمقدمة مبارك بخط يده.. ونحن إذ ننشرها إنما نقدمها للقارئ بمناسبة مرور 40 عاماً على نصر أكتوبر المجيد، الذى كان مبارك أحد رموزه.. أياً كان خلافنا أو اتفاقنا معه أو عليه.. ليس هذا فقط.. وإنما مع انفرادين آخرين يمثلان إضافة جديدة لذاكرة التوثيق لهذا الحدث العظيم. الأول هو مذكرات أحمد أبوالغيط وزير الخارجية الأسبق بعنوان «شاهد على الحرب والسلام» التى سبق ونشرتها «الوطن».. والثانى المذكرات الشخصية للمشير أحمد إسماعيل وزير الحربية فى حرب أكتوبر التى دوّنها بخط يده، ولم تُنشر من قبل، وتواصل «الوطن» غداً نشر حلقاتها. إنها حرب أكتوبر وقصة البطولات المصرية التى نوثقها للأجيال الحالية والقادمة.. وإذا كان الكثيرون -ونحن منهم- يختلفون مع فترة حكم مبارك، فإن هذا لا يعنى طمس تاريخ هذه الحرب المجيدة التى خاضها الجيش المصرى العظيم، وكان «مبارك» خلالها قائداً للقوات الجوية التى صنعت أعظم بطولات هذه الحرب. و«الوطن» تواصل الانفراد بنشر هذه المذكرات.
«ما أسهل الهدم، وما أصعب البناء، خاصة لو تعلق الأمر بإعادة ترميم النفوس الجريحة»، هكذا يواصل «مبارك» توثيق كيفية إعادة بناء القوات الجوية بقواتنا المسلحة بعد نكسة الخامس من يونيو عام 1967، يؤكد أن السر فى سرعة شفاء النفوس المقاتلة هو صلابة المصريين التى كانت أقوى من مشاعر الهزيمة، والرغبة فى الثأر التى سكنت فى نفوس المقاتلين فكانت أكثر تجبراً من جبروت العدو. يتحدث فى هذا الجزء عن البناء الذى تم فى كل أرجاء القوات المسلحة المصرية على قدم وساق. وكيف تركز العمل فى القوات الجوية على ثلاثة محاور أساسية. يواصل «مبارك» فى كتابه «كلمة السر» الصادر عن «نهضة مصر» توثيقه الدقيق الذى سجله فى نهاية سبعينات القرن الماضى بأمر من الرئيس السادات، لنعرف حقيقة الخطة «صدام» التى وضعت من قِبل المخططين العسكريين فى القوات الجوية لتكون مفتاح النصر فى حرب أكتوبر 73، إلى حد أن قال عنها المشير محمد عبدالغنى الجمسى وقتها: «هى التى بدأت الحرب وهى التى أنهتها». وكيف تعاملت تلك الخطة مع العدو بمهنية منحته قَدْره الطبيعى وإمكانياته التى لا مفر من التعامل معها، فى ذات الوقت الذى حسبت فيه حساب كل ما قد يفاجئنا به العدو فى رد فعله على مبادرتنا الأولى، ولكن كان سلاح مقاتلينا التدريب والتخطيط والإيمان بالنصر أو الشهادة.
الأولة فى البناء.. المطارات
انصب المحور الأول من خطة إعادة البناء على الإسراع بإصلاح وترميم ما أصيب من المطارات ومنشآتها المعاونة، مع العمل السريع على استعادة ما تم تدميره أو إصابته من طائرات السلاح، لتجد القوة البشرية من الطيارين والمهندسين والفنيين، ما يحتاجون له لاستئناف التدريب. وهو ما يقول عنه مبارك: «كانت قيادة السلاح الجوى تدرك أن عدد المطارات الموجودة قليل جداً بالنسبة لاحتياجات رقعة واسعة كمصر، كما كانوا يدركون أن ما لدينا من مطارات بكل تفاصيلها ومنشآتها معروفة لسلاح الجو الملكى البريطانى الذى أنشأ معظمها أيام وجوده فى مصر قبل توقيع اتفاقية الجلاء عام 1954، الأمر الذى يجعل من هذه المطارات سراً غير حصين بالنسبة لسلاح الجو الإسرائيلى، وقد كان من قادته مَن عمل بمطارات القنال قبل رحيل القوات البريطانية عنها، لكن القيادة المصرية الجديدة لم يكن أمامها فرصة للاختيار. كان من الواجب أن تبدأ ولو من نقطة الصفر.. وكانت المطارات القديمة هى نقطة الصفر التى بدأ العمل بإصلاحها لتستقبل الأفواج الجديدة من الطائرات التى بدأ وصولها لتعويض الخسائر الفادحة التى لحقت بطائراتنا».
لم تكن مشكلة المطارات العسكرية المصرية متعلقة فقط بعدم سرية تفاصيلها للعدو، ولكن أيضاً فى تقليدية تخطيطها، وما بها من منشآت معاونة ملحقة بها، فحظائر الطائرات الموجودة بها كانت معدنية وثبت عدم فاعليتها فى حماية الطائرات من القصف الجوى فى نكسة يونيو. لم يكن من الممكن التخلى كلية عن تلك المطارات ولكن كان على القيادة التفكير فى كيفية استغلالها الاستغلال الصحيح. ولذا تم اعتبارها مقرا لتجميع وتركيب الطائرات الجديدة، ومحطات تدريب أولى للأفواج الجديدة من الرجال الذين بدأ تدريبهم بسرعات قياسية على مختلف تخصصات الحرب الجوية من ناحية أخرى. وهو ما يضيف عليه مبارك القول: «للحقيقة والتاريخ فقد أدت هذه المطارات القديمة بعد إصلاحها، جميع المهام التى نيطت بها على أكمل وجه، كما أن وجود هذه المطارات العتيقة فى تصميمها ومنشآتها، قدم لقيادة الجو المصرية الجديدة خدمة رائعة، لأن وجود هذه المطارات بقلة عددها، وانتشار تفاصيلها وذيوع هذه التفاصيل، كان يقدم للقيادة الجديدة باستمرار، الدليل الحى على الأخطاء التى يجب عليها أن تتجنب الوقوع فى حبائلها، وفى سبيل إعادة بناء قواتنا الجوية».
وهكذا كان على القوات الجوية التغلب على قلة عدد المطارات، والقصور فى تجهيزاتها، خاصة فيما يتعلق بأجهزة الإنذار المبكر العاملة بها أو فى الأماكن المحيطة بها. وضعف وسائل الاتصال بين غرف العمليات الفرعية بالمطارات القديمة، وغرفة العمليات المركزية بقيادة السلاح الجوى المصرى.
الممرات الجوية
وهكذا تمثل المحور الثانى فى خطة إعادة البناء للقوات الجوية، فى زيادة عدد المطارات والممرات الجوية بالقدر اللازم، الذى يغطى الاحتياجات الحقيقية لسلاحنا الجوى. وهو ما يقول عنه مبارك: «قد يتصور البعض أن هذه العملية من السهولة بمكان، وأنها لا تخرج عن كونها عملية إمكانيات مادية تيسر القيام ببناء أى عدد من المطارات، ما دامت الرسوم موجودة، وما دامت الأموال والأيدى العاملة موجودة. لكن الأمر فى حقيقته أكثر صعوبة وتعقيداً.. ولا أكون مغالياً إن قلت إن عملية زيادة المطارات المصرية إلى العدد المطلوب بسلاح جوى، له ظروف السلاح المصرى وعليه واجباته، كانت من أروع الملاحم التى كتبها الشعب المصرى فى تاريخه الحديث. وقد بدأت تلك الملحمة عشية النكسة باستطلاع جوى شامل، جمع أراضى جمهورية مصر العربية، وعلى ضوء هذا الاستطلاع الواسع المدى، تم وضع الخرائط المساحية الدقيقة، التى تحدد بدقة بالغة أنسب المواقع لإقامة المطارات والممرات الجديدة، التى رُوعى فى تحديد أماكنها عدد من العوامل المؤثرة، بعضها استراتيجى وبعضها تعبوى، وبعضها تكتيكى، بحيث تؤدى الصورة النهائية لخريطة المطارات الجديدة بعد الإفراغ من إنشائها لإقامة كيان متكامل من القواعد الجوية، القادرة على أداء لحن متناسق عندما يصدر إليها الأمر المرتقب».
وهكذا بدأت الملحمة المصرية فى أعقاب هزيمة قاسية، وفى ظل احتلال العدو لجزء لا يستهان به من الأرض. فبعد وضع الخرائط التفصيلية بدأت عملية استطلاع أرضى على الطبيعية لكل موقع على حدة، لتقرير الصلاحية النهائية. وسرعان ما تصدر إشارة البدء، العمل الذى لم يتوقف لحظة من نهار أو ليل. أقسم الرجال ألا يهنأوا بلحظة راحة إلا ومصر محررة آمنة. كان العمل فى إقامة شبكة المطارات الجديدة يجرى تحت الهجمات المتكررة لطائرات العدو المغيرة على سمائنا، ولكن لم يؤثر ذلك على عزيمة الرجال. وهو ما يتحدث عنه مبارك قائلاً: «كلما ازداد العدو الجوى شراسة فى قصفه لمواقع بناء هذه القواعد كان أبناء مصر الشجعان عسكريين ومدنيين من العاملين فى هذه المواقع يزدادون إصراراً على إنجاز المهمة، ويزدادون شراسة فى أدائها، لأنهم كانوا على يقين، من أنهم فى سباق تاريخى مع الزمن، ومع العدو الذى يريد أن يثبط همتهم، وهو سباق رهيب جائزته الحياة والنجاة وإقامة درع الأمان لمصر كلها، وخسارته رهيبة أيضاً، لا معنى لها سوى تأكيد سيطرة العدو الجوية على سماء المنطقة كلها. ولكننا فزنا من جوف الأرض، وعلى امتداد رقعة الأرض المصرية الغالية لتشييد شبكة هائلة من القواعد والمطارات والممرات الجوية الحديثة فى تصميمها وتنفيذها، وفى المنشآت الحديثة التى زودت بها».
الدشم الخرسانية
يصل مبارك للمحور الثالث فى عملية إعادة بناء السلاح الجوى، والمتعلق بتشييد الدشم الخرسانية المسلحة وملاجئ حماية الطائرات، الذى يصفه بأنه من أروع انتصارات الإنسان المصرى فكراً وعملاً، فى سنوات الإعداد للمعركة، فيرد الفضل فيه للفكر الهندسى المصرى الصميم، وللتنفيذ المصرى الذى يبلغ حد الإعجاز فى دقته. كان لا بد من البحث عن بديل سريع للحظائر المعدنية بشكل يضمن السلامة للطائرات، ويكمل حمايتها فى حالة إفلات العدو الجوى من حائط الدفاع الجوى الثابت، ومظلة الدفاع الجوى المتحركة، ومن هنا، كما تقول المذكرات، جاءت فكرة الدشم الخرسانية التى تولتها مجموعة من العقول المصرية المتخصصة فى هندسة الإنشاءات، والمهندسين العسكريين، وخبراء جهاز إنشاء المطارات، إلى جانب عدد من أساتذة الهندسة بالجامعات المصرية، وهو ما يكمل عليه «مبارك» بالقول: «عندما أعلن مهندسونا وخبراؤنا، أنهم توصلوا إلى تصميم (الدشمة الخرسانية المسلحة) التى تضمن تحقيق الهدف المطلوب، فوجئوا بقيادة الجو المصرية، تطلب منهم أن يتولوا الإجابة الدقيقة عن مجموعة محددة من الأسئلة هى: ما هو على وجه الدقة الموقع الذى يرشحونه لإقامة الدشم بالنسبة لكل ممر من ممرات المطار، وبشكل يضمن سلامة وضع الطائرات موضع الاستعداد فى حالتيه الأولى والثانية؟ وما تصورهم عند تنفيذ التصميم المقترح للأسلوب السليم لخروج ودخول الطائرة من الدشمة وإليها، علاوة على طريقة الجر أو الدفع الذاتى؟ وما الوسائل التى تضمن تأمين وسلامة أطقم الفنيين الأرضيين المسئولين عن تجهيز وإعداد الطائرة داخل الدشمة، خاصة بالنسبة لعادم الطائرة، عند دوران محركها قبل خروجها من الدشمة؟ ما وسائل تأمين الطائرة داخل الدشمة ضد العوامل الجوية والأثرية؟ وما وسائل حماية الطائرة وعدم إصابتها عن طريق المداخل المكشوفة بدون بوابات؟ وتوالت التصميمات والتعديلات، حتى قدر للجميع أن يعلوا فى النهاية كلمة العلم بموضوعية صارمة، ونجح العقل المصرى الخلاق فى تحقيق المعجزة، وظهرت الدشمة المسلحة إلى الوجود، تحدياً عملياً صارخاً، لكل ما أشاعه العدو عن تفوقه فى مجال العالم الحديث والتكنولوجيا، وعجز العقل العربى عن اللحاق به، فضلاً عن منافسته أو التفوق عليه».
يتوقف مبارك عن السرد العلمى لعملية إنشاء الدشم الخرسانية، ليحكى عن واقعة حدثت يوم الأحد، السابع من أكتوبر عام 1973، أى ثانى أيام الحرب، وأظهرت فيها الدشم الخرسانية قوتها وصمودها فى المعركة ودورها الذى بان أثره بقوة، حيث سعى العدو للتقليل من خطورة الهجمات الجوية المصرية، وانتشار المشاة والمدفعية بعد تحقق العبور يوم السادس من أكتوبر، فلجأ لاستخدام الطيران أو ما كان يسميه بذراع إسرائيل الطويلة عبر عملية هجومية مركزة استهدفت ضرب أكبر عدد ممكن من المطارات والقواعد الجوية المصرية، محاولاً تكرار ما قام به فى الخامس من يونيو عام 1967 لإحداث شلل كامل لسلاح الجو المصرى، تمهيداً لإخراجه من المعركة، لولا أن حمت الدشم طائراتنا، وهو ما يقول عنه مبارك -فى عودة لروح تفنيد خطة ورؤى العدو-: «إن العملية الهجومية التى حاول سلاح الجو الإسرائيلى القيام بها صباح الأحد 7 أكتوبر 1973 كانت مجرد «مغامرة مجنونة» ولا يمكن أن ترقى حتى إلى وصفها بأنها مهمة انتحارية وذلك للأسباب الآتية: أولاً إن العملية التى يقوم بها أى سلاح جوى مهاجم ضد خصمه لكى تكتسب احترام الخبراء فى التخطيط للحرب الجوية من جهة، ولكى توصف بأنها عملية سليمة من جهة ثانية، يجب أن يتوفر فيها تحديد الهدف المطلوب تحقيقه من الضربة الجوية تحديداً كاملاً، فلا يترك فرصة أمام الطيارين المقاتلين المكلفين بالمهمة للوقوع فى براثن الارتجال، أو الاجتهاد السريع، وأن تكون لدى واضع الخطة المعلومات الدقيقة عن دفاعات العدو الثابتة والمتحركة المتوقعة للتصدى للعملية واعتراضها ومحاولة إجهاضها. ولذا، فإن التطبيق الموضوعى المحايد، لهذه القواعد النظرية على العملية الهجومية التى قام بها سلاح الطيران الإسرائىلى.. ضد مجموعة من المطارات المصرية، يوم الأحد 7 أكتوبر 1973 يؤكد أن هذه العملية، لم تكن بأى حال من الأحوال عملية هجومية سليمة من وجهة النظر العلمية لقواعد التخطيط للحرب الجوية، كما لا يُمكن وصفها ولو من باب التجاوز، بأنها عملية انتحارية، قامت بها جماعة من الفدائيين، فإذا لم تكن هذه العملية، هجوماً جوياً جرى تخطيطه وتنفيذه، على أسس سليمة، وإذا لم تكن أيضاً عملية انتحارية، فلم يبق أمامنا ودون أدنى استسلام لدواعى التعصب القومى، أو تجاهل النظرة العلمية المحايدة إلا أن نصف هذه العملية بوصفها الصحيح، وهى أنها مجرد مغامرة مجنونة، اندفع إليها قادة سلاح الجو الإسرائيلى، بالطيش، والاستهتار حتى بأرواح طياريهم المقاتلين واندفعوا إليها بأخطر ما يقع فيه المقاتل الحديث، وهو الغرور بالنفس والاستهانة بالخصم».
لا يكتفى مبارك بتوصيف تلك الخطوة بالجنون من قبل عدو أعماه الغرور، لكنه يذكره بما قامت به قواتنا المسلحة يوم السادس من أكتوبر ليدرك حمق خطوته، وندرك نحن حجم إنجازنا، فيقول: «كان على القائد الإسرائىلى الذى أصدر أمره بالهجوم على المطارات المصرية صباح الأحد 7 أكتوبر أن يتوقف أمام حقيقتين هما: فى الساعة «205» الثانية وخمس دقائق من بعد ظهر السبت 6 أكتوبر، عبرت مائتان واثنتان وعشرون طائرة مصرية قناة السويس، لتقوم بضربة جوية مركزة على مختلف القواعد والمواقع الإسرائيلية فى سيناء، وتنجح فى أداء مهمتها نجاحاً ساحقاً، أكده انخفاض نسبة الخسائر بين الطائرات المصرية المهاجمة إلى واحد فى المائة، تمثل رقماً قياسياً عالمياً، لم يحدث من قبل فى تاريخ الحروب الجوية، كما أكد هذا النجاح الساحق، ارتفاع نسبة إصابة الأهداف إلى رقم يجاوز الخمسة والتسعين فى المائة، بالإضافة إلى نجاح هذا العدد الضخم من الطائرات المهاجمة فى العودة بسلام بعد تنفيذ المهمة، واختراق حائط الجحيم الذى أشعلته المدفعية المصرية المرابطة -وقتها- على الضفة الغربية للقناة، دون أن تسقط طائرة مصرية واحدة -ولو من باب الإصابة الخطأ- وهى تحلق على ارتفاع منخفض، لا يجاوز ارتفاع السد الترابى الذى أقامته إسرائىل على الضفة الشرقية للقناة إلا ببضعة أمتار قليلة».
يا الله أنت وحدك من يعلم ما فى النفوس، وتعلم أن هؤلاء الجند وقد قال عنهم نبيك وآخر مرسليك إنهم خير أجناد الأرض-ولو كره الكارهون وكذب المدعون- أنت من تعلم كيف عادت هذه الطائرات المصرية بعد نجاح ضربتها على خطوط العدو، سليمة لتخترق جحيم المدفعية المصرية التى كانت تصب غضبها قبل نارها على جبهة العدو، دون أن تسقط منها طائرة واحدة، وهو ما يضفى ملامح الإعجاز على رجال المدفعية الذين لم يخطئوا أهدافهم ولو قيد أنملة، وكذلك مهارة الطيار المصرى المقاتل، فى إصابة أهدافه والتصويب عليها بدقة بالغة، ثم قدرته العالية الكفاءة، على التحكم فى طائرته، والمناورة بها، وتحديد مسارها يميناً ويساراً، وارتفاعاً وانخفاضاً بصورة مشرفة وضحت آثارها فى عودته سالماً، بالإضافة إلى ما كانت تتمتع به الجبهة المصرية من نظام إنذار مبكر ودفاع جوى بكفاءة عالية الارتفاع يسرت للقوات المسلحة المصرية بجميع أفرعها البرية والبحرية والجوية والدفاع الجوى أن تأخذ حذرها فى وقت مبكر جداً ضد أى هجوم متوقع. يستشهد مبارك هنا باعترافات عدوه، فيذكر تصريحات موشى ديان نفسه، وزير الدفاع الإسرائيلى، الذى قال: «هذه حرب صعبة.. معارك المدرعات قاسية.. ومعارك الجو فيها مريرة.. إنها حرب مريرة بأيامها، وثقيلة بدمائها»، كما يستعين بمانشيتات صحيفة نيويورك تايمز المعنونة بالهزيمة: «إسرائيل فقدت لحظة اندلاع الحرب نحو خمس ما كانت تملكه من طائرات.. وتتمثل هذه الخسائر فى المقاتلات الفانتوم، وقاذفات القنابل الهجومية من طراز سكاى هوك».
يتوقف مبارك مرة أخرى ليطرح تساؤله حول كيفية إعادة بناء قوات جوية فى ست سنوات وبتلك الكفاءة؟ فيجيب ذاته بالقول إن السبب يكمن فى درس النكسة فى يونيو 1967 والذى حول عمل القوات المسلحة كلها من حرب شعارات لحرب إرادة، تم بناؤها على أسس العلم والتسليح، أما السبب الثانى فيكمن كما يقول فى حرب الاستنزاف التى كانت محطة تدريب لا يستهان بها للمقاتل المصرى فى كل أفرع القوات المسلحة، مشيراً إلى أن حرب الاستنزاف مرت بثلاث مراحل هى: الصمود، والدفاع النشط، ثم الاستنزاف.
«الميج» فى مواجهة «الفانتوم»
مرة أخرى يسلط مبارك القائد العسكرى الضوء على بطولة لأحد نسور الجو المصرى فى حرب الاستنزاف، التى تمكن فيها طيار مقاتل مصرى يقود طائرة من طراز «ميج» من تحقيق المعجزة حين حطم دعايات العدو وأسقط طائرة «فانتوم» أمريكية كانوا يطلقون عليها «الشبح». يذكر مبارك القصة بقوله: «كانت المنطقة الساحلية الواقعة غرب «بورسعيد» و«شرق رأس البر»، نقطة التسلل للطائرات المعادية التى تستهدف ضرب المطارات المصرية.. وفى يوم 9 ديسمبر 1969 التقطت شاشات الرادار المصرية، أهدافاً غريبة تتحرك فوق مياه البحر الأبيض على ارتفاعات منخفضة فى اتجاه المنطقة الخطرة من سواحلنا الشمالية، وعلى الفور صدرت الأوامر لمقاتلاتنا المصرية من طراز «ميج 21» بالتصدى للطائرات الإسرائيلية المغيرة، وكانت من طراز «فانتوم». كانت المواجهة الفريدة يقودها من الجانب المصرى بطل من أبطال السلاح الجوى المصرى هو الرائد طيار سامح، الذى دخل هذه المعركة مشبّعاً بروح الانتقام والثأر لزميله فى السلاح وصديق عمره النقيب طيار «نورالدين» الذى كُتبت له سعادة الاستشهاد، بفعل كمين جوى نصبته له المقاتلات الإسرائيلية فى يوليو 1969. كانت طريقة الانتقام فى غاية البساطة والجرأة فى وقت واحد. كان بين طيارى التشكيل المصرى الملازم طيار عاطف، فأصدر الرائد سامح أمره لتلميذه عاطف لكى يأخذ وضع الاستعداد اللازم، ثم قام سامح بنفسه وبمعاونة باقى طائرات التشكيل المصرى بالمناورات السريعة المُحكَمة التى جعلت إحدى طائرات «الفانتوم» فى مرمى نيران الطيار عاطف الذى كان يتلقى توجيهات قائده، وينفذها بدقة، يسّرت له أن يصيب صيده الثمين. فسقطت «الفانتوم» وكان هذا اليوم بمثابة ناقوس الإنذار المدوى وانتبه سلاحها الجوى إلى حقيقة الخطر الداهم، الذى يعنيه نجاح الطيار المصرى المقاتل فى إسقاط أحدث أنواع الطائرات».
يعرج مبارك من حديثه عن البناء المادى للقوات الجوية، إلى البناء المعنوى لرجالها ليؤكد أن الروح المعنوية القوية المؤمنة برسالتها هى أساس سلامة العقيدة القتالية التى تقود إلى ارتفاع الكفاءة النفسية للمقاتل. فيؤكد أن المقاتل المصرى الذى تعرض للهزيمة فى يوم ٥ يونيو هو نفسه المقاتل الذى حقّق النصر الساحق فى يوم ٦ أكتوبر بعد ست سنوات ليصعد من قاع الهزيمة ليرتقى قمة النصر، وهو يحمل نفس السلاح الروسى. وهو ما دفع بإسرائيل إلى القول إن المصريين تعاطوا دواءً كيميائياً للشجاعة! وهو قول هراء بالطبع يعبر عنه مبارك بالقول: «إذا كان هناك من سر غير كيميائى بالتأكيد فإن مكمنه هو إيمان المقاتل المصرى مع قيادته الجديدة بأن السلاح بالرجل وليس الرجل بالسلاح. من هذا الإيمان الأساسى، استمد المقاتل المصرى المكوّنات السليمة لعقيدته القتالية الجديدة، التى وصلت به إلى مستوى من ارتفاع الكفاءة النفسية والقتالية، أذهل الخصم، وجعله يبحث عن سر «حبوب الشجاعة» التى يتعاطها هذا المقاتل المصرى الجديد».
ثم يبدأ مبارك فى شرح الكيفية التى تم بها دعم الروح المعنوية للمقاتل المصرى بعد نكسة الخامس من يونيو عبر منهج علمى ونفسى مع الاعتماد على طبيعة المقاتل المصرى الصلبة المستندة إلى جذور ممتدة ضاربة فى التاريخ ومؤمنة بالأرض. لتستبدل القيادة بالقوات المسلحة بنظريات إدخال السرور عن طريق حفلات الترفيه وتوزيع الحلوى والسجائر الإضافية على الضباط والجنود، والتى كانت سائدة حتى يونيو 1967، نظريات العلم الحديث فى التدريب وهدم دعاية العدو لنفسه من أنه يمتلك اليد الطولى والأقوى وأنه الجيش إلى لا يُهزم، من داخل نفوس مقاتلينا. لا من خلال الشعارات والعبارات الرنانة ولكن من خلال تفنيد أساليب العدو وإبراز ما بها من ضعف وقوة وسبل مواجهتها. وهو ما يقول عنه مبارك: «لم تكن المهمة الجديدة سهلة بأى حال من الأحوال، فقد كان على الجهاز الجديد الذى كانت مسئوليته الإعداد المعنوى للمقاتل الجوى، أن يضع خطته على أسس مدروسة، وأن ينفذها بأسلوب عملى، لا يقتصر على التوجيهات المكتوبة فى نشرات التوجيه المعنوى التقليدية.. بل تنوع أسلوب «الجهاز الجديد»، فشمل كل وسائل الاتصال الجماهيرى -المعترف بها فى فلسفة الإعلام الحديث- كالهوايات، والتدريب، والترفيه، ونشر المعلومات. كانت هذه الوسائل جميعها، تتحرك فى تعاملها مع المقاتل، مستهدفة تزويده بألوان من المعرفة، التى يمثل كل منها، عنصراً أساسياً، من مكونات «العقيدة القتالية السليمة»، بحيث تعيد بناء هذا المقاتل نفسياً على أساس صلب، فيكتسب الثقة بالنفس وفنون القتال».
** قل «جيش مصر» ولا تقل «عسكر»
من يقرأ تلك الجزئية فى مذكرات مبارك يدرك حقيقة ومفهوم العقيدة لدى جيشنا الذى يسميه البعض جهلاً أو حقداً بكلمة «عسكر»، حيث يشرح مبارك كيف أن جيشنا فى إعادة إصلاح ما خسره فى عام 1967 اعتمد على أكثر من مسار. فيتحدث عن القوات الجوية كمثال، قائلاً: «كان علينا دعم عقيدة القتال لإعداد المقاتل الجوى المصرى من الوجهة النفسية إعداداً سليماً، لنمزج داخل نفسية هذا المقاتل بين أمرين، أنه لا يقاتل حين يقاتل، رغبة فى العدوان، بل يخوض أهوال الحرب، لصد العدوان عن أرضه وعرضه، فهو مقاتل، وليس قاتلاً مأجوراً. والثانى: أن الجزاء الحقيقى الذى ينتظر المقاتل المؤمن هو النصر على عدوه، وردعه عن العدوان.. أو.. الاستشهاد فى سبيل الوطن. كانت النتيجة الرائعة هى نقطة الوصول على المحور الأول.. فى عملية البناء الكبير لقواتنا الجوية. وصدق العالم أجمع، ما أراد المقاتل المصرى أن يقوله ببساطة، من أن «السلاح بالرجل».. وليس الرجل بالسلاح، فى ذات الوقت كان العمل لرفع الكفاءة القتالية للمقاتل المصرى. وتم تعيين الرؤساء المناسبين، والمسلحين بالتخصصات المتقدمة، فى أفرع التدريب المختلفة، لإعداد الخطط الجيدة للتدريب القتالى، على أسس واقعية».
وهكذا شملت عمليات التدريب دراسة ما حدث من أخطاء فى يونيو 67 لمنع تكرارها، والتدريب على عمليات القتال الجوى بجميع أنواعه فى مختلف الارتفاعات، والظروف الجوية المتباينة، وإجراء الرماية فى ميادين تكتيكية، والتصويب على أهداف هيكلية، تشبه الأهداف الحقيقية لدى العدو. وإعداد الطيارين والملاحين والموجهين، والفنيين والأطقم الأرضية بأساليب متكاملة.. تمكنهم من استخدام الأساليب الفنية الحديثة، والوصول بهم إلى المستوى العلمى، الذى يسمح لهم بالتعامل مع أحدث الآلات، وأكثر أنواع الطائرات تعقيداً. وإعداد المتخصصين فى مجال الاتصالات والإصلاح الهندسى للطائرات والملاحة الجوية، والاستطلاع والتصوير الجوى وتفسير وقراءة الصور الجوية، وتشغيل المعدات الفنية الخاصة التى تكمل عمل الطائرة.
أتى هذا بثماره -كما يقول مبارك- عن تحقيق أرقام قياسية لدى المقاتل المصرى فى حرب أكتوبر، فيضيف: «بعد ست سنوات من هذه التدريبات المكثفة، فى مختلف المستويات والمجالات، كان أن حققنا كثيراً من الأرقام القياسية. فقد حقق كثير من الطيارين بين «6» و«7» طلعات طائرة فى اليوم، محطمين بذلك الرقم القياسى العالمى وهو «4» طلعات يومية. ودامت بعض الاشتباكات الجوية، خلال حرب أكتوبر، ما يقرب من «50» دقيقة، رغم أن الزمن التقليدى لأى اشتباك جوى لا يتعدى من «7» إلى «10» دقائق. وكان تدمير الدبابة الواحدة فى جداول التدمير النظرية، يستلزم من «2» إلى «3» هجمات طائرة.. غير أن طيارى المقاتلات القاذفة المصريين حققوا إمكان تدمير أكثر من دبابة بهجمة طائرة واحدة».
كلمة السر.. «صِدام»
حملت خطة القوات الجوية فى حرب السادس من أكتوبر اسم «صدام» لتعبر عن مضمونها الذى يتحتم فيه الاصطدام بالعدو وإلحاق أكبر قدر من الخسائر فى قواته البشرية والآلية. ويبقى السؤال الذى يطرحه مبارك فى مذكراته شارحاً تلك الخطة وما حدث فيها هو: ما حقيقة ما حدث فى الثانية وخمس دقائق من بعد ظهر السادس من أكتوبر عام 1973؟ وكيف نفذ طيارونا المقاتلون الضربة الجوية المصرية المركزة «صِدام» ضد أهداف العدو؟ كيف حققوا بدقتهم فى تنفيذها، وبانخفاض نسبة الخسائر بين طائراتهم، وارتفاع نسبة إصاباتهم للأهداف المعادية، مستويات قياسية جديدة لم يسبقهم إليها أحد فى تاريخ الحروب الجوية؟ يقول مبارك: «فى هذه الحرب أثبت مقاتلونا بنجاحهم الساحق أن الطيار المصرى المقاتل ليس قادراً على الانتقام من عدوه الطيار الإسرائيلى فحسب، ولكنه قادر على تحقيق انتقامه الجوى، بأعلى قدر من الكفاءة فى التخطيط، والإحكام فى التنفيذ، بمستوى يجعل من ضرباته الانتقامية مثالاً يُحتذى به».
يسترجع مبارك قبل استدراكه فى شرح الخطة الهجومية للقوات الجوية فى أكتوبر 73، ذلك الاجتماع الذى دعا له الرئيس السادات فى 24 أكتوبر عام 1972 فى القيادة العامة للقوات المسلحة، عارضا بعضا من فقراته نتوقف نحن أمام تلك الفقرة التى قال فيها السادات لرجاله من قادة القوات المسلحة: «إحنا أمام امتحان قدام شعبنا فى المقام الأول.. قدام رجولتنا.. تاريخنا كله.. قدام أجيالنا اللى جاية.. هل إحنا موجودين، ولّا مش موجودين.. ربنا يوفقكم». وهكذا تدرك حجم التحديات التى كان يواجهها هذا الجيش العريق. يعرف حجم المعوقات ويعرف دوره ويصر على تحمل مسئوليته. يشرح مبارك مشاعره أمام كلمات السادات بالقول: «أرجو ألا أكون مبالغا فى إحساسى إذا قلت إننى شعرت ليلتها بأن حديث القائد الأعلى عن اختبار القدر الذى نواجهه، وتساؤله حول إحنا موجودين ولا مش موجودين، ثم إحساسه بالألم وهو يقول: كفاية سمعنا كلام كتير.. وتجريح كتير.. ولحظة لازم نواجهها.. محكوم علينا من الكل إن إحنا ناس لا قدرة لنا.. خلاص.. مشلولين». أحسست بأنه تعبير عن مشاعر الرجال فى القوات الجوية، التى تحملت ما لم يتحمله سلاح جوى فى العالم من اتهامات ظالمة، أراد العدو بها أن يهز ثقة مصر فى سلاحها الجوى، وفى طيارها المقاتل. أوجز السادات المعنى: «إحنا أمام امتحان قدام شعبنا فى المقام الأول.. قدام رجولتنا.. تاريخنا كله.. قدام أجيالنا اللى جاية.. هل إحنا موجودين ولا مش موجودين». وإذا كان المنطق الجدلى يسمح بوجود أكثر من إجابة للسؤال الواحد، فإن هذا السؤال بالذات لم تكن له إلا إجابة واحدة.. أن نثبت للعالم ولشعبنا المصري -ولأمتنا العربية- أننا موجودون».
ويحكى مبارك كيف دخل سلاحنا الجوى المعركة وهو محمل بأوزار ضربتين جويتين فى عامى 1956 و1967، وكيف رأى أن يكون الثأر لهذا السلاح بالرد على العدو بنفس اللغة التى يفهمها، عبر قيام رجال السلاح الجوى بضربة جوية مركزة ضد مطارات العدو ومواقعه العسكرية المؤثرة، ضربة ذات حجم هائل، وغير متوقعة سواء على مستوى التخطيط المحكم، أو التنفيذ الدقيق. سعى مبارك للثأر والانتقام من عدوه وتلقينه درساً فى كيفية احترام قدرات الطيار المصرى. وهكذا ولدت الفكرة الأولى للضربة «صدام».. بمعناها وأبعادها وفلسفتها وأهدافها.
هنا لا بد أن تستمع لمبارك وهو يشرح خطته «صدام» التى استعاد بها الطيار المصرى سمعته بين جيوش العالم، حين يقول: فى بداية تحليلنا للعملية «صدام» لا بد من الإشارة إلى بعض الحقائق المهمة، أولها تحديد موقفها من العدو الجوى موضوعيا، يصل إلى حد الصرامة فى واقعيته، دون تهوين أمر هذا العدو أو انتقاص من قدراته الحقيقية، ودون تهويل أو مبالغة فى تقدير ما يملكه العدو من عتاد وخبرة قتالية. لقد تحركت قيادة الجو المصرية وهى تخطط للعملية «صدام» على أساس أن الطيار المصرى المقاتل سيواجه عدوا مدربا تدريبا جيدا، ووراءه رصيد من الخبرة والممارسة القتالية، بالإضافة إلى ذلك هناك حقيقة ما يملكه العدو من إمكانيات عالية المستوى فى العتاد والسلاح الجوى، تجعل الطيار الإسرائيلى مزوداً -من الناحية النفسية على الأقل- بكفاءة معنوية عالية، يمده بها إحساسه بالاطمئنان الكامل إلى طائرته وإمكانياتها العالية. هذه الواقعية فى النظرة إلى العدو التى تمثل أعلى مستويات الصدق مع النفس هى التى حمت الطيار المصرى المقاتل، ظهر السادس من أكتوبر، من التعرض لمفاجآت غير محسوبة، وهى التى ضمنت لسلاحنا الجوى الاستمرار فى القيام بواجباته القتالية والهجومية طوال أيام المعارك، بحيث كانت قواتنا الجوية، كما قال الفريق أول محمد عبدالغنى الجمسى القائد العام للقوات المسلحة ونائب رئيس الوزراء ووزير الحربية، «هى التى بدأت الحرب وهى التى أنهتها». نعم لقد كان لهذا الحساب الدقيق للمخاطر والمفاجآت المحتملة من جانب العدو الفضل فى نجاح الطائرات المصرية فى تنفيذ ضربتها المركزة «صدام»، وعجز العدو عن التصدى لهذا العدد المخيف من الطائرات -الذى لم يسبق أن اشترك مثله فى عملية هجومية واحدة- بل إن كثافة عدد الطائرات المصرية المغيرة، فضلا عن قدرتها على إحداث أكبر قدر من التدمير للعدو بسرعة وفى وقت واحد، أدت أيضاً إلى نتيجة رائعة كانت محسوبة تماما، وهى إصابة طيارى العدو بالفزع والرعب، وهم يشاهدون سلاحنا الجوى يهاجمهم بهذه الكثافة والإصرار، الأمر الذى أدى إلى اهتزاز ثقتهم بقيادتهم التى خدعتهم طويلا، وهونت لهم كثيرا من أمر سلاح الجو المصرى وأمر طياريه.
ويواصل مبارك حديثه عن الخطة «صدام» قائلاً: «الحقيقة الثانية هى توقع المفاجآت من العدو، احتراما لمبدأ أن العدو عنده دائما ما يخفيه، وضمانا للوصول بالخطة المصرية إلى تحقيق الهدف المحدد لها، حتى لو تعرض التنفيذ لأى مفاجآت يكون العدو قد أحكم إخفاءها فى الفترة السابقة للعمليات، وما يمكن أن ينتج عن هذه المفاجآت من تعويق ولو جزئى لأهداف الضربة الجوية. وحددنا خطوات خطتنا فى الآتى:
1- فى الموعد المحدد لبدء العملية «صدام» أى الساعة 2.05، تندفع الطائرات المصرية، المكلفة بالمهمة، شرقا، وتخترق خط الجبهة، حيث تقوم وفى وقت واحد، تم حسابه بالثانية، بقصف مركز للأهداف والمواقع المعادية، التى رؤى على مستوى التخطيط المتخصص للقوات الجوية، والتخطيط الشامل لقواتنا المسلحة كلها، ضرورة تدميرها وإسكاتها تماما قبل اندلاع الحرب، حتى نوفر لقواتنا التى ستعبر القناة بعد نجاح الضربة الجوية، أقصى ما يمكن توفيره من ضمانات الأمن، وعدم التعويق المؤثر لمجهودها الرئيسى فى العمليات. ووضعنا فى حسابات خطتنا احتمال نجاح العدو فى استخدام ما قد يكون عنده من إمكانيات غير معروفة لنا، بحيث يتمكن من امتصاص جزء كبير من تأثير الضربة الجوية التى سنوجهها لمواقعه وأهدافه المؤثرة، ففكرنا فى الحل السريع الذى يضمن تحقيق أهداف الضربة الجوية بأعلى نسبة من إصابة الأهداف، وبأقل قدر من الخسائر بين طائراتنا، وهذا الحل الذى نزيح الستار عنه الآن يتمثل فى الملمح الثانى من الخطة.
2- أن تقوم قواتنا الجوية، فى تمام الساعة الرابعة والنصف بعد ظهر 6 أكتوبر، أى بعد مرور نحو الساعتين والنصف، بتوجيه ضربة جوية ثانية، بنفس المستوى العالى من التركيز، وعلى الأهداف نفسها التى تم قصفها فى الضربة الأولى.لمواجهة أى تعويق من العدو لأهداف الضربة الأولى. إن قصر المساحة الزمنية التى تفصل بين الوقت المحدد للضربة الأولى، ووقت توجيه الضربة الثانية، لا يسمح للعدو بالتقاط أنفاسه، وإعادة أهدافه التى أصيبت فى الضربة الأولى -أو دُمرت- إلى مستوى الصلاحية المؤثر فى مقاومة الضربة الثانية، فضلا عن أن القوات الميدانية العاملة فى المواقع التى دمرت -أو أصيبت- فى الضربة الأولى، تكون كفاءتهم النفسية، قد هبطت بشكل فعال، يؤثر على كفاءتهم القتالية، التى لن تسعفهم فى مقاومة الضربة الثانية. كما أنه فى حالة نجاح العدو فى امتصاص الجزء الأكبر من الآثار التدميرية التى أحدثتها الضربة المركزة الأولى، فالأمر المؤكد أن الجانب الأكبر من اهتمامات العدو، عقب تلقيه لهذه الضربة المفاجئة، وبالكثافة التى تمت بها، سيتجه إلى محاولة إصلاح ما أعطب أو أصيب من أجهزته وعتاده -إن كانت هناك إمكانية لإصلاحه- ومعنى هذا أن العدو سيكون مشغولا طوال هذه الفترة فى محاولة حصر الخسائر، وإصلاح ما يمكن إصلاحه من أعطاب، ولن يتجه بمجهوده الرئيسى إلى محاولة الرد بضربة جوية انتقامية، قبل الاطمئنان إلى سلامة موقفه، والعودة بهذا الموقف إلى ما هو قريب من المستوى السابق للضربة التى تلقاها».
كان التخطيط يسير وفقا لرؤية علمية محددة، كان كل شىء قد تم حسابه حتى نتائج العمليات الجوية والهدف منها. وهو ما يقول عنه مبارك: كانت الخطة «صدام» تضمن تحقيق عدد من النتائج هى:
1- استمر التصاعد فى الخط البيانى الذى يمثل تدمير أهداف العدو، بحيث نصل بهذا الخط إلى أقصى نقطة ممكنة تمثل الهدف النهائى لخطة العملية «صِدام».
2- حرمان العدو من الهدوء الذى قد يساعده على تعويض ما خسره من عتاد ومقاتلين، أو إصلاح ما أُعطب من أجهزته ومنشآته نتيجة للضربة الأولى.
3- منع طيران العدو من استخدام المطارات القريبة فى توجيه ضربة انتقامية، سواء ضد قواتنا الزاحفة أو ضد أهدافنا العسكرية أو المدنية.
4- توفير الحماية اللازمة لقواتنا البرية فى ساعات العبور الأولى، وذلك بمنع طيران العدو الذى دمرت أو أعطبت مطاراته القريبة ومواقعه المؤثرة من القيام بأى عمليات هجومية تعوق المجهود الرئيسى لهذه القوات، خصوصاً فى لحظات إنشاء رؤوس الكبارى وتأمينها، والتى تُعتبر أخطر مراحل العبور».
وتظهر بشائر النصر بعد الضربة الجوية الأولى فى حرب السادس من أكتوبر حينما ثبت تحقيق الأهداف المطلوبة فيها بشكل يؤدى للاستغناء عن توجيه الضربة المركزة الثانية التى كانت موضوعة فى الخطة. وهو ما يدفع مبارك للعودة إلى عدوه الذى حطم طائرته فى يونيو 1967 «موردخاى هود» قائد القوات الجوية الإسرائيلية وصاحب عملية طوق اليمامة التى حطمت قواتنا على الأرض فى 1967. فيوجه له الحديث قائلاً: «تُرى ما رأى جنرال الجو الإسرائيلى «موردخاى هود» صاحب عملية «طوق الحمامة» - التى كادت العسكرية الإسرائيلية أن تفرضها على التاريخ العسكرى، باعتبارها خطة إسرائيلية، وهى لا تعدو فى حقيقتها، أن تكون نسخة مقلدة من الأصل الأنجلوفرنسى، الذى نُفذ ضدنا عام 1956؟ ترى ما رأى الجنرال «هود» فى هذا التمهيد العلمى الدقيق الذى اعتبره المخطط الجوى المصرى نقطة البداية الأولى فى إعداده لخطة الضربة الجوية المصرية «صِدام»؟ وما رأى «موردخاى هود» -ومن ورائه كل جنرالات الجو الإسرائيليين وكل صقور المؤسسة العسكرية الإسرائيلية- فى ذكاء المخطط الجوى المصرى وفى قدرته الواضحة على الاستفادة إلى أقصى حد من نظريات وقواعد القتال الجوى الحديث لكى يضمن لخطته الهجومية أكبر قدر من النجاح، ويوفر لطياريه -عن طريق الدراسة الجادة- كل ما يستطيع توفيره من ضمانات ضد المفاجآت غير المحسوبة وعمليات الإجهاض المضاد التى تعوق الضربة المصرية وتنحرف بمجهودها الرئيسى عن أهدافه الأساسية. ألا يعتبر «الجنرال هود» كل هذا دعوة غير مباشرة للفكر، يوجهها الطيار المصرى المقاتل -الذى أُعيدت صياغته على أحدث ما تكون صياغة وإعداد الطيار المقاتل- لكى يفيق خصومه من أحلام اليقظة الكاذبة التى نعترف بأنها أفادتنا كثيراً، لأنها ساعدتنا على العمل فى صمت، ولسنوات طوال، كان العدو فيها مشغولاً باجترار إحساسه البالغ بالنصر، وكنا منصرفين خلالها إلى العمل والتدريب والإعداد، حتى وصلنا إلى اللحظة التى أقسمنا -عام 1967- على الوصول إليها مهما كان الثمن ومهما كانت التضحية».
ثم يواصل مبارك تحذيره الذى يصل لمرحلة التهديد لهذا العدو بقوله: «إن مصير أى مغامرة جنونية قد يفكر العدو فى الإقدام عليها تقليداً لما حدث فى 5 يونيو 1967 ليس مصيراً افتراضياً مبعثه الوهم، لكن المصير المحتوم سيكون نتيجة حتمية لما يستطيع سلاحنا الجوى أن يصنعه بعدوه -جواً وبراً وبحراً- بعد أن وصل إلى ما وصل إليه من مستوى بالغ الارتفاع، كسلاح جوى بالغ العصرية على جميع مستويات التخطيط، والتنظيم، والإعداد، والتدريب، ذلك المستوى الذى تفصح عنه تفاصيل العملية «صِدام».
Eghelp- مشرف عام
- عدد المساهمات : 2821
مواضيع مماثلة
» الحلقة الثالثة : مبارك يفضح خطة اسرائيل في 67 و يكشف ضعف المؤسسة العسكرية الاسرائيلية
» القناة 24 الاسرائيلية : العرب "شمتانين" في اسرائيل .. و"اسرائيل تحترق" متصدر
» اسرائيل : الجيش السوري استعاد كل القرى على الحدود مع اسرائيل و الاردن
» على فراش الموت
» صبحي صالح يدعي " الجنون " ويطلب عرضه على طبيب نفسي
» القناة 24 الاسرائيلية : العرب "شمتانين" في اسرائيل .. و"اسرائيل تحترق" متصدر
» اسرائيل : الجيش السوري استعاد كل القرى على الحدود مع اسرائيل و الاردن
» على فراش الموت
» صبحي صالح يدعي " الجنون " ويطلب عرضه على طبيب نفسي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى